مقدمة في اللاعنف والنضال السلمي
إعداد: رياض عديلة
ما يزال ابنا آدم حاضرَين في النفس البشرية في جميع حركاتهم وسكناتهم، في رضاهم عن واقع يعيشونه أو رفضهم له، في اختيار سفك دم الآخر كحق تراه لك وحدك دون غيرك، في استخدامك للقوة بغير حق متى امتلكتها، ويغيب عنا سلوك اللين وعدم مواجهة القوة بالقوة للابن الآخر لآدم عليه السلام مع امتلاكه لها لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (28) إِنِّيٓ أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ (29). [سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٢٨ – 29[.
إن البعد الأول في سلوك ابني آدم، المتمثل بتقبل الواقع أو رفضه، لم يعد بسيطاً كما كان في حالة ابني آدم الأولى، بل صار يأخذ مناحٍ متشعبة وأكثر تعقيداً، وفقاً لتطور وعي الإنسان وفهمه لتشعبات العلاقة بين الإنسان ذاته والطبيعة وخالقه أيضاً. والبعد الآخر هو طريقة تعبير الإنسان عن قبوله ورفضه، بمعنى الأدوات المعرفية وغير المعرفية التي يستخدمها، بين من يؤمن بالإكراه (العنف) كأداة تَحكُم علاقة البشر، ومن يؤمن بالعقل (الحوار وقبول الآخر)، كأداة لإحداث تغيير ما، حيث يحتدم الصراع ويشتد بحسب الموضوع المتنافس عليه، ما بين من يحترم العقل الإنساني والتجربة الإنسانية ويقبل تنوع البشر واختلافهم وبين من يستخدم الاختلاف والتنوع، لخلق صراع ونزاع يديره بمنطق الغابة، بل بمنطق الشياطين!
ورد في تاريخ المصريين أنهم كانوا يقدمون قرابين بشرية عند فيضان نهر النيل، حتى يهدأ النهر ويعود لطبيعته، وورد أيضاً أنهم يدفنون زوجات الملك أحياء عندما يموت ملِكهم، وورد عند العرب أنهم يئِدون البنات خشية العار، ولعل الأمثلة لا تحصى في تاريخ البشرية عن العنف والاكراه. وإنَّ من قرأ قصة الحضارة لـ(ديورانت) تتجلى له الصورة أكثر، فقد قتلت الكنيسة غاليليو لأنه صرَّح بكروية الأرض، وقُتل الكثير من المسلمين في الاندلس لأسباب دينية.
إن تعامل الإنسان مع الكوارث أو الظواهر الطبيعية تغير جذرياً من حيث الفهم الذي يحدد رفضه أو قبوله، ومن حيث طريقة التعامل، فما عادوا يقدمون القرابين البشرية، بل صاروا يستمعون لهذه الأرض إذا تنفست، فيبتعدون عن براكينها إذا انفجرت، ويلتصقون بها إذا اهتزت، ويصعدون جبالها إذا فاض ماؤها. فالفارق ما بين المنهجين، هو اعتماد أحدهما الإكراه (القوة السلبية) وسفك الدم لإثبات فكرة ما، أو إلزام الآخرين بها، واعتماد الثاني الحجة والمنطق والبرهان والاستماع للآخر، ولك أن تقنع به أو ترفض.
لقد أسس النبي محمد ومن قبله جميع الأنبياء للعدل والمساواة والسلام ولعمارة الأرض ولاجتثاث العبودية ولتوحيد الخالق سبحانه وتعالى. وهدم منطق الطغيان والإكراه، فأنزل الله قوله لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [سُورَةُ البَقرَة: 256[.، ليقول للناس: لا إكراه ولا احتكام للقوة في أعظم أمور الإنسان وهو اعتقاده، فمن نافل القول أن يكون ما دونها لا إكراه فيه. ولعل هذا الرشد يكون حلم البشرية الذي يعمل على تحقيقه، وما الديمقراطية التي أوجدها الغرب والتي تعتبر أعظم إبداعات القرن العشرين بحسب تعبير المفكر جودت سعيد؛ إلا نتاج لتطور وعي الإنسان مع موضوع الحرية السياسية، الذي يتجسد بنقل السلطة من غير عنف ومن غير سفك للدماء.
أما الحريات الأخرى فيما يخص الحياة الاجتماعية والحياة الفكرية، فلم يعرفها أو يمارسها الانسان في القرنين الأخيرين التاسع عشر والعشرون، أو لم تصل إلى المستوى المطلوب بعد، حسب تعبير الدكتور وائل حلاق في كتابه الدولة المستحيلة. وهذا يشخص بدقة حالة المجتمعات العربية المسلمة بعمومها وصراعها مع الاستبداد، بأن بناءها الفكري يؤكد على الارتباط الوثيق بين الحريات التي يمارسها الإنسان، سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية أم فكرية. فالإنسان قادر على التفكير بكل ما يحيط به، ويستطيع في كل أحواله إعطاء نتائج سلبية أو إيجابية ،وبالتالي يستشعر الخطر البادي في الأفق إذا انتقصت واحد من حقوقه، ويبدأ بالتحرك لإحساسه بالخطر، فحياته مهددة. فهو كالأسماك التي تستشعر قدوم الزلزال فتبدأ بالهرب، أو بالأحرى بدأ يشعر بالضعف النفسي والجسدي نتيجة للبيئة السيئة التي يعيش فيها.
وما هجرة البشر إلا لأنهم بدؤوا يستشعرون الخطر. فلربما فقدوا الغذاء أو الدواء أو التعليم أو الأمان، وفي المقابل نرى أن صراع المجتمعات الغربية ضد الاستبداد، كان يأخذ منحى الحريات السياسية غالباً، مما جعل المهمة أسهل لتلك المجتمعات في نضالها السلمي.
وإذا ما قرأنا سيرة الأنبياء مع أقوامهم، فإننا غالباً ما نجد أنهم يلجؤون إلى الحوار وتصحيح مفاهيم الناس- وخصوصاً الطواغيت منهم – حول الخالق وحول استعباد الناس وظلمهم وأكل أموالهم واستباحة حرماتهم. وكانوا يتعرضون للإيذاء النفسي والجسدي الذي قد يصل حد التصفية أحياناً. وهذا عزاؤنا فيمن ينتهج طريق الأنبياء في التغيير المجتمعي، ورفع الظلم عن الناس. أما إذا حدث تغيير سياسي باستخدام قوة السلاح، فإن هذا المظلوم يتحول إلى ظالم بمجرد استلامه للسلطة، ويبدأ بإكراه الناس وقتل مخالفيه والاستيلاء على أرزاقهم، وينطبق عليه قول المفكر جودت سعيد: من أخذ السلطة بالقوة والإكراه لا يمكن أن يكون راشداً. هنا تقع الكارثة وتظهر المشكلة المعرفية، حيث يبدأ المستبد بتصنيع عبيد له يستخدمهم في ظلم الناس والاستعلاء عليهم، وهذا ما عبر عنه الناشط السوري يحيى الشربجي رحمه الله حين قال عن المخابرات العربية: هم أناس مشوهون فكرياً، فهم يقتلون ويسرقون ويغتصبون أبناء وطنهم!
إن النضال السلمي بمفهومه وأدواته واستراتيجياته يحتاج للعمل بناءً على دراسات اجتماعية وسياسية، لكل بيئة على حدة، بسبب الخصوصية والبعد الثقافي للمجتمعات الإنسانية. فما يصلح لمكان وزمان ما قد لا يصلح لآخر. ورأينا ذلك عندما قدم الإيرانيون الورود لجنود الشاه إبان الثورة الإيرانية 1979 فقبلوها واصطفوا معهم، أما في سوريا 2011 فقد قَتل الجنودُ من قدم لهم الورود! ويسبق هذا كله بناء معرفي يرتكز إلى قراءة الانسان لذاته ولفهمه للآخر المختلف عنه.
إن الحالة المثالية التي تجنبنا سفك الدماء ودمار العمران، هي أن يحتكم الطرفان إلى منطق العقل، فيربح الجميع ولا يخسر أحد، ولكن الحال ليس كما نتمنى، فأغلب النزاعات والخلافات عبر التاريخ كانت تنتهي بحروب كارثية، والحربين العالميتين أكبر شاهد على ذلك. وبنفس الطريقة تدار النزاعات والخلافات داخل البلدان نفسها وبين الجماعات الصغيرة، فالمجتمع المدني أو المجتمعات في الدول الديمقراطية تعمل بشكل سلمي فهي تشكل مجموعات ضغط لإحداث إصلاحات يريدونها لتحقق مطالبهم، فإذا تمنعت الحكومة، ينزل الناس إلى الشوارع ويعبرون عن غضبهم ويؤكدون مطالبهم سلمياً.
أما البلاد التي وصل حكامها بالعنف والإكراه، والتي يغيب فيها القانون، ويختفي دور المجتمع المدني، فإن موضوع التغيير فيها، يَقع على نخبة من المجتمع، ينتهي بها المطاف إلى السجن (السعودية مثالاً). لكن النموذج الأخطر هو ما حدث في سوريا، فقد نزل الشعب بمعظمه إلى الشارع، وتعرض لإرهاب دولة ممنهج قتلاً وتشريداً وتجويعاً وحصاراً.
إن الحال الذي وصلنا إليه في القرن العشرين من جرائم دولية خطيرة، فيما يخص التطهير العرقي والابادة الجماعية والتهجير القسري على أيدي مستبدين مؤيَّدين دولياً وفرارهم من قبضة العدالة لأسباب كثيرة، يضع العمل السلمي أمام معوقات كبيرة، ومن أبرزها؛ عدم جدوى مواجهة الظالمين قانونياً أو سياسياً.
أما إذا انتقلنا إلى فكر الاستبداد وطبائع المستبدين، فنجد أنَّ الكواكبي قد استفاض في وصفهم في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع العباد)، حيث نجد أن المستبدين يرون معارضيهم منازعين لهم ولملكهم، الذي لا يحق لأحدٍ الاقتراب منه، فيعمدون إلى تصفية الخصوم جميعاً. وهو ما يزال مستمرا حتى وقتنا الحالي، ويروَّج له في أدبيات السياسة الدولية.
ويرى المستبدون أن خسارتهم للحكم ولملكهم، يقودهم إلى المحاكم، حيث تكون السجون مصيرهم، فهم متورطون غالباً بتنفيذ أجندات لدول خارجية من سرقة وقتل وخيانة لشعوبهم.
ومن أهم المعوقات أيضاً؛ استحالة الجمع بين الطرفين، فكل واحد منهم سيعمل على جرِّ خصمه إلى ملعبه، ليحقق فوزاً ساحقاً، وهذا ما يفعله دائما الاستبداد، حيث يجر الناس إلى العنف، أو يختلق حوادث عنف ويتهم خصومه بها.
يساعد على ذلك الدور السلبي للمجتمع الدولي الذي يدعم صاحب القوة ومصالحه معه، ولا يهتم لصاحب الحق، وبالتالي يرجِّح كفة من يمتلك السلاح وليس العقل، عبر إقراره نظرية التغلب السياسي (حكومة الأمر الواقع) حين يعطي المنتصر عسكرياً الشرعية الدولية.
ويكمن التحدي الأكبر في قدرة المناضلين سلمياً على الاستمرار في هذا الطريق، وذلك لظن البعض أن هذا الطريق ورديٌ، فلا يسعى لامتلاك أدوات تساعده في إبطال قوة المستبد، وقد يتوقف في منتصف الطريق حين يرى كلفته العالية من اعتقال وتعذيب وأذى نفسي وجسدي قد يطاله ويطال عائلته أيضاً. وقد لا يأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن، وهو محرك أساسي في النضال السلمي، فلربما يمتد لعشرات السنين.
يحتاج النضال السلمي لإيمان بمفهوم العدالة بكل أشكالها السياسية والاقتصادية والفكرية، وحتى البيئية، بحيث يكون ركيزة في النضال السلمي، ويساعد على الاستمرار حتى تحقيق المطالب.
ومع كل التعقيدات والصعوبات لاتخاذ النضال السلمي سبيلاً في التغيير المجتمعي وخصوصاً في البلاد العربية ذات الطابع الإسلامي بعمومها، والتي تطالب بالحريات جميعها وليس بالحريات السياسية فحسب كما حدث في البلاد الأوروبية، يبقى إيماننا بالعقل والإنسان هو الأمان والبراءة من ظلم الناس واستعبادهم، بل ويعطينا شعوراً بكرامة الله لنا أننا قادرون على خلافته في أرضه.